الجمعة، 22 أبريل 2016

لَـيْـلَـةُ الـذئـابِ ... وَالـرِّيـحُ تـَعْـوِي...محمد دحروج


لَـيْـلَـةُ الـذئـابِ ... وَالـرِّيـحُ تـَعْـوِي
هُـنَـاكَ فِي تِلْكَ البُقْعَةِ الحَزِينَةِ الحَالِـمَةِ؛وَلاَ أُحِـبُّ أَنْ أذهَـبَ مَعَ التَّارِيخِ
القَدِيمِ لأُنَّهُ مُمْتَدٌّ جِدَّاً وَمَلِيءٌ بِالحِكَايَاتِ المُسْتَغْرَبَةِ؛وَلَكِنِّي أَضْرِبُ المَسَافَاتِ ضَرْبَ
الخَيْلِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي تَنْطَلِقُ كَسَهْمٍ مَرِيشٍ وَلاَ تَتَوَقَّفُ إِلاَّ عِنْدَ عَجِيبَاتِ الأَمَاكِنِ؛هُنَاكَ
فِي تِلْكَ البُقْعَةِ وَالرِّيحُ تَعْوِي وَالظَّلاَمُ مُخَيِّمٌ وَالأَرْضُ قَـد خَلَت مِنَ البَشَرِ كَانَ يَقِفُ
رَجُلٌ فِي الخَامِسَةِ وَالثلاَثِينَ ـ فِي عُمْرِ صَاحِبِ هَذِهِ السُّطُورِ الآنَ ـ؛لَهُ قَامَةٌ كَأَنَّ
السَّحَابَ عَلَى أَكْتَافِهَا؛تَبْرُقُ عَيْنُهُ السَّوْدَاءُ الَّتِي تَنْطِقُ بِكِبْرِيَاءِ الدَّمِ المُنْتَسِبِ إِلَى بِلاَدِ
الأَطْلَسِيِّ؛كَانَ وُجُودُهُ كَكَوْنٍ مُسْتَقِلٍّ بِذاتِهِ؛وَبِجِوَارِهِ كَانَت تَقِفُ سَيِّدَةٌ سَمْرَاءُ اللَّوْنِ نَحِيلَةٌ
جَاءَ أَهْلُهَا مِنْ بِلاَدِ الجَنُوبِ المِصْرِيِّ؛وَحَوْلَهُمَا طِفْلٌ صَغِيرٌ يُصِيخُ سَمْعَهُ إِلَى عِوَاءِ
الذِّئـَابِ القَادِمِ مِنْ مَقْبَرَةٍ تَقُومُ عَلَى تَلٍّ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ هَذِهِ البُقْعَةِ؛كَانَت الأُمُّ
كُلَّمَا سَمِعَت هَذا العِوَاءَ المُتَّصِلَ ارْتَجَفَت وَاضْطَرَبَ صَوْتُهَا فَيَفْزَعُ الصَّبِيُّ وَيَقِفُ بِجِوَارِ
وَالِدِهِ الَّذِي كَانَ لاَ يُبَالِي بِأَصْوَاتِ الذئابِ الَّتِي تَجِيءُ مِنْ بَيْنِ القُبُورِ؛ كَانَت الأُمُّ تَحْمِلُ
المَاءَ مِنَ بِرْمِيلٍ كَبِيرٍ فَيَأَخْذهُ زَوْجُهَا الَّذِي يُسَرِّبُ المَاءَ بَيْنَ الطُّوبِ الأَحْمَرِ لأَنَّ البَنَّاءَ
سَيَأْتِي فِي الصَّبَاحِ لِلشُّرُوعِ فِي التَّأْسِيسِ لِلْبَيْتِ الصَّغِيرِ؛وَنَفِذ المَاءُ؛فَأَمَرَنَا أَبِي أَنْ نَخْرُجَ
إِلَى حُدُودِ النُّورِ القَادِمِ مِنْ أَطْرَافِ بَلْدَتِنَا القَدِيمَةِ وَأَنْ تَحْمِلَ الأُمُّ الوَصْلَةَ الَّتِي سَتُوضَعُ
فِي فَمِ صُنْبُورِ المِيَاهِ المُثـَبَّتِ فِي القَاعِدَةِ الحَدِيدِيَّةِ بَيْنَ البَلْدَةِ المَعْمُورَةِ المُضِيئةِ وَالبُقْعَةِ
السَّوْدَاءِ المُظْلِمَةِ؛ وَبَقِىَ هُوَ يَرْفَعُ الحَجَرَ وَيُعِدُّ مَا يَجِبُّ إِعْدَادَهُ حَتَّى نَأْتِي؛وَأَمَرَنَا أَنْ
نَمْضِي مِنَ الطَّرِيقِ البَعِيدِ عَنِ المَقْبَرَةِ؛كَانَ الظَّلاَمُ غَبِيَّاً غَيْرَ أَنَّ القِنْدِيلَ كَانَ بِيَدِ أُمِّي
لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَمِنْ ضَؤْهِ يَرْقُبُنَا أَبِي الَّذِي بَقِىَ وَحْدَهُ فِي هَذا المَكَانِ؛وَفِي مُنْتَصَفِ
الطَّرِيقِ طَلَبَ طِفْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ أُمِّهِ أَنْ يَأْخُذ طَرَفَ الوَصْلَةِ؛فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهَا؛فَأَخَذهَا
وَانْطَلَقَ يَجْرِي وَخُرْطُومُ المِيَاهِ يَمْتَدُّ سَرِيعَاً مَا بَيْنَ القَاعِدَةِ الَّتِي بِهَا مَوْضِعُ المَاءِ بَيْنَ
البَلْدَتَيْنِ وَبَيْنَ الطَّرَفِ الآخَرِ الَّذِي وُضِعَ فِي البِرْمِيلِ الكَبِيرِ هُنَاكَ فِي مَنْطِقَةِ الظَّلاَمِ
عِنْدَ أَبِيهِ؛وَمَا أَنْ وَصَلَ إِلَى مَوْضِعِ المِيَاهِ حَتَّى أَخَذ يُعَجِّلُ أُمِّهِ أَنْ تَقَدَّمِي لِنَرْبِطَ الوَاصِلَةِ
بِالصُّنْبُورِ كَى نَرْجِعَ إِلَى أَبِي؛فَلَمَّا أَنْجَزَا الأَمْرَ؛أَخَذا فِي رِحْلَةِ الرُّجُوعِ إِلَى المَكَانِ الأَوَّلِ؛
وَكَانَت الأُمُّ تُطَالِبُ الصَّغِيرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِيَذهَبَا سَرِيعَاً إِلَى وَالِدِهِ فَإِنَّهُ وَحْدَهُ هُنَاكَ مُحَاطٌ
بِأَصْوَاتِ الذئابِ؛فَكَانَ الصَّبِيُّ يُعْطِي أَقْدَامَهُ لِلرِّيحِ؛فَإِذا غَابَ عَنْ أُمِّهِ نَادَتْهُ خَوْفَاً عَلَيْهِ
وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَظَلَّ مُمْسِكَاً بِيَدِهَا غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ مَشْغُوفَاً بِحُبِّ أَبِيهِ؛فَكَانَ يَجْرِي حَوْلَهَا
غَاضِبَاً وَيَصْرُخُ بِهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ أَكْثرَ كَى يُدْرِكَا وَالِدَهُ فَإِنَّهُ وَحْدَهُ .
كَانَ هَـذا المَشْـهَدُ فِي عَـامِ 1984 م؛وَمَرَّت السُّنُونُ؛وَالطِّفْلُ كَبِرَ؛وَوَقَفَ فِي
سَنَةِ 2002 يُصَـلِّي إِمَـامَاً بِالـنَّاسِ عَـلَى أَبِـيهِ الَّـذِي وُضِـعَ فِي النَّعْشِ أَمَـامَـهُ؛
وَجَلَسَ فِي سَنَةِ 2010 م يَحْتَضِنُ أُمَّهُ الَّتِي نَطَقَت بِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ ثمَّ فَارَقَتِ الحَيَاةِ
فَصَلَّى عَلَيْهَا وَأَوْدَعَهَا قَبْرَهَا ...؛وَهَكَذا فَارَقَهُ ذلِكَ المَغْرِبِيُّ الأَبِيُّ وَرَفِيقَتُهُ السَّمْرَاءُ ...؛
وَرَحَلَ فَتَاهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا إِلَى عَاصِمَةِ بِلاَدِهِ؛فَأَصْبَحَ مِلْءَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ فِي عَالَـمِ
الأَدَبِ؛وَهُوَ اليَوْمَ فِي مِثلِ سِنِّ أَبِيهِ حِينَ كَانَت هَذِهِ الذكْرَى وَاقِعَاً مَا صَارَ بَعْدُ مِنْ
مَشَاهِدِ تَارِيخٍ قَـد مَضَى ...؛غَيْرَ أَنَّ أَحْدَاثَ لَيْلَةِ الذئابِ مَا تَزَالُ وَاللهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ لاَ
تُفَارِقُ !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق